الأحد، 5 مارس 2017

القلب العزيز الشيخ الروحانى محمد القبيسي 00201015003179

الخطبة الأولىوقفنا في الجمعة الماضية عند القسم الأول من أقسام القلب العزيز، ضمن سلسلة أنواع القلوب في جزئها الثالث والعشرين، وعرفنا أن العزة ضد المذلة، وهي صفة تحمل الإنسان على القوة، فلا يُغلب، ولا يستكين، ولا يَضعف. وعرفنا أن صاحب القلب العزيز، يبدأ بنفسه، فيصونها عن الذلة، ويجعل القناعة لها حلة. يرى ترك الدنيا كرامة، والانشغال بها دون الآخرة ملامة. يكسوه التواضع رفعة، ويزيده العفو والصفح قوة ومنعة. لا يفتخر بالنسب، ولا يتعزز بالحسب، ولا يغتر بكثرة المال، ولا بتعداد الأنصار والرجال، ولا يفخر بجميل الثياب، ولا يغلق دون الضعفاء الباب.
ولنا أن نتساءل: ما السر في عزة السلف، وضعف الخلف؟ ما الأسباب التي جعلت أجدادنا مهابين، منصورين ظاهرين؟ وما الأسباب التي جعلتنا – اليوم – في آخر سلم الحضارة قابعين، مستكينين مذلولين؟ نبكي على الأطلال، ونلوك مجد الأبطال، نلوذ بأمجاد التاريخ، ونُنحي على أنفسنا باللوم والتوبيخ، ونعتب على أنفسنا أننا – وإن كنا أمة المليار -، فقد استهوانا بريق الدرهم والدينار، حتى لحقنا العار والشنار، فصرنا – على كثرتنا – ضعفاء، لا ماء فينا ولا رواء، حتى اهتَبلَنا الأعداء، وطمع في خيراتنا الأنداد ومن تسموا بالأصدقاء، وصدق فينا قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا”. فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: “بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ. وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ”. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ الله، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: “حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ” صحيح سنن أبي داود.
كم من المسلمين – اليوم – يعتدى عليهم، وينكل بهم، تمثيلا، وتشويها، وتعذيبا، وانتهاكا، وإذلالا، واغتصابا، ولا نكاد نسمع من يندد ويشجب، فضلا عمن يغار عن الأعراض ويصرخ؟

أتسبى المسلمات بكل ثغر 
وعيش المسلمين إذن يطيب 

أما لله والإسلام حق 
يدافع عنه شبان وشيب؟ 

فقل لذوي البصائر حيث كانوا 
أجيبوا الله ويحكم أجيبوا 

 تَذْكُرُ كتب التاريخ أن صلاح الدين عندما سار إلى بيت المقدس، وصلته رسالة من أحد المأسورين في القدس، فيها أبيات على لسان المسجد الأقصى:

يا أيها الملك الذي 
لمعالم الصلبان نَكَّس 

جاءت إليك ظلامة 
تسعى من البيت المقدَّس 

كل المساجد طُهِّرتْ وأنا 
على شرفي أدنَّس 

فما كان إلا ان شدد صلاح الدين الحصار على النصارى، حتى طلبوا الأمان، ونزل ملك بيت المقدس يترفق السلطان، وذَلَّ ذلاً عظيماً، فأجابهم صلاح الدين للصلح، ودخل المسلمون القدس، أعزة منصورين.
كنا جبالا في الجبال وربـما ♦♦♦ سرنا على موج البحار بحارا
والقدس – اليوم – يئن تحت وطأة الصهاينة، وقد شددوا عليه الخناق، وأبوا كل صلح أو وفاق، بل تعنتوا، وصلفوا، وعتوا فيه بالفساد، من غير اعتبار أو ارتفاق، وهو يصرخ قائلا:

ظفرت بنا الأعداء يوم وداعكم 
فدماؤنا فوق الدماء تُراقُ 

هُتك الستار وقُطِّعت أوصالنا 
ونساؤنا نحو الهوان تُساقُ 

أَوَ هكذا ينسى الحبيب حبيبه 
بحطام دنيا ما لها ميثاقُ 

أزيد من ستة آلاف أسير فلسطيني في سجون الاحتلال – اليوم -، فيهم نساء وأطفال، ما مآلهم؟ وما أملهم في الإفراج عنهم؟ وهم يلقون من صنوف التعذيب، وألوان التنكيل ما الله به عليم، ومن بَان عجزه، زال عِزه.
قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: “لأن أستنقذ رجلا من المسلمين من أيدي الكفار، أحب إلي من جزيرة العرب”.
وبلغ إلى علم الخليفة عمر بن عبد العزيز أن رجلاً من المسلمين أسره الروم، وأرغمه زعيمهم على ترك الإسلام، فرفض الرجل، فأدخله السجن. لما بلغ الخبرُ إلى الخليفة الزاهد، غضب، وكتب إلى الإمبراطور الروماني: “من أمير المؤمنين، عمر بن عبد العزيز، إلى ملك الروم، وبعد: لقد بلغني ما فعلتَ بأسيرك فلان، وإني أقسم بالله العظيم، إن لم ترسله من فورك، لأبعثنَّ إليك من الجند، ما يكون أولهم عندك، وآخرهم عندي”. وبلغتِ الرسالة إلى إمبراطور الروم، فأمر في الحال بإحضار الأسير، فأعطاه من المال والهدايا، وأرسله في مجموعة من حرسه الخاص.
قتلى الشام – اليوم – يزيدون عن 260 ألفا، وجرحاهم يعدون بمئات الآلاف، وأكثر من 3000 مدرسة دمرت، 1000 منها تستعمل لإيواء اللاجئين، و 1450 ما بين مسجد وكنيسة خربت، وأكثر من ثلاثة ملايين منزل حطم، وأزيد من 224 مستشفى أبيد، ولربما بخلنا بالدعاء لإخواننا المستضعفين هناك بالنصر والتمكين، ومع ذلك ننشد العزة والكرامة.
كم من المسلمين في بورما قتلوا، وأحرقوا بالنار وهم أحياء، وطردوا، وهجروا؟
كم يقتل أعداء المسلمين اليوم من إخواننا في شتى البقاع، تحت ذرائع عديدة، يغطون بها عدوانهم؟ وإنما يقصدون إذلال المسلمين، وكسر شوكتهم، حتى إذا قتل أفراد منهم قامت الدنيا ولم تقعد.

قتل امرئ في غابة 
جريمة لا تغتفر 

وقتل شعب آمن 
مسألة فيها نظر 

يقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لاَ يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ؟” صحيح سنن ابن ماجة.
لقد بعث الإدفنش صاحب الأندلس رسالة استهزاء واستصغار إلى الأمير يعقوب المنصور الموحدي، يقول فيها: “أنتم تزعمون أن الله تعالى فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم، فالآن خفف الله عنكم، وعلم أن فيكم ضعفا، ونحن الآن نقاتل عشرة منكم بواحد منا، لا تستطيعون دفاعا، ولا تملكون امتناعا.. فلا أدري، أكان الجبن أبطأ بك، أم التكذيب بما وعد ربك؟”. فلما وصل كتابه إلى الأمير يعقوب، مزقه، وكتب على ظهر قطعة منه: ” ﴿ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [النمل: 37]، الجواب ما ترى لا ما تسمع”، فكانت معركة “الأراك”، التي أعز الله فيها الإسلام والمسلمين.

وإنا أمةٌ عزَّت فِعالاً 
وسادَ أُباتُها غُرًّا كِراما 

وما انتكَسَت جِباهُ الصِّيدِ يومًا 
على ذلٍّ ولا رضِيَت ملاما 

فتلك مواقِفُ الأبطال تَتْرَى 
وقد عمَّت كرامتُها الأنامَا 

الخطبة الثانية
لما امتنع نقفور ملك الروم عن أداء الجزية، كتب إليه هارون الرشيد قائلا: “الجواب ما تراه لا ما تسمعه”، فسير إليه جيشا عظيما، أجبره على الانصياع لأوامر المسلمين.
وامرأة يعتدي عليها الروم ويستذلونها، فتنادي: “وامعتصماه”، فيبلغ النداء المعتصم، فَيُصيِّر جيشا عظيما يحاصر عمورية، وإذا بإمبراطور الروم يبعث رسوله يطلب الصلح، ويعتذر عما فعلوا بالمرأة المسلمة، لكن المعتصم أبى إلا أن يعز تلك المرأة المظلومة، ولم يكن لذلك ثمن إلا فتح عمورية.
فتح الفتوح تعالى أن يحيط بـه ♦♦♦ نظمٌ من الشعر أو نثرٌ من الخطب
ووقف عقبة بن نافع على القيروان، وكانت غابة موحشة، وكان الفاتحون يرجعون دونها، لكنه صمم أن يبني مدينة القيروان، لتكون مركزا للعالم الإسلامي في شمال إفريقيا، ولم يصغ إلى التهديدات والمخاوف، بل واصل المسير حتى وقف بفرسه على المحيط الأطلسي، وقال: “والله الذي لا إله إلا هو، لو أعلم أن وراء هذا الماء أحدًا من البشر لخضته بفرسي هذه”.
لا نذكر هذه الوقائع لياذا بالتاريخ، وإغماضا للعين عن واقع المسلمين، ولا تناولا لجرعات مسكن تذهلنا عن تخلفنا وخلافنا، ولكن تذكيرا بحال سلفنا، وتنويها بفعل العزة في نفوسهم، وما كانوا عليه من شموخ وإباء، وشحذا للهمم، وتطويقا لكثرة النقم والتهم، بأننا أمة عقيم، لا نملك لأنفسنا شيئا.

هذي معالم خرس كل واحدة 
منهن قامت خطيبا فاغرا فَاهُ 

الله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً 
وأخطأ دمع العين مجراهُ 

فهل من سبيل للرجوع بالمسلمين إلى سالف عهدهم؟ وهل بالإمكان استرجاع عزهم وعظيم مجدهم؟ لعل الجواب نعرفه في الخطبة القادمة إن شاء الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق